سورة يونس - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (يونس)


        


يقول الحق جل جلاله: {ولقد أهلكنا القرونَ من قبلكم} يا أهل مكة، {لمَّا ظلمُوا} بالكفر وتكذيب الرسل، {وجاءتهم رسلُهم بالبينات}: بالمعجزات الواضحات، الدالة على صدقهم، {وما كانوا ليؤمنوا} أي: ما استقام لهم أن يُؤمنوا، لما سبق لهم من الشقاء ولفساد استعدادهم، أو ما كانوا ليؤمنوا بعد أن هلكوا لفوات محله، {كذلك} أي: مثل ذلك الجزاء وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم الرسل وإصرارهم عليه، بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم {نجزي القوم المجرمين} أي: نجزي كل مجرم، أو نجزيهم، ووضع المظهر موضع المضمر؛ للدلالة على كمال جرمهم، وأنهم أعلام فيه. قال البيضاوي.
{ثم جعلناكم} يا أمة محمد {خلائف في الأرض من بعدِهم} من بعد إهلاكهم، فقد استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها، استخلاف من يختَبرُ {لننظُرَ} أي: لنظهر ما سبق به العلم، فيتبين في الوجود، {كيف تعملون}، أخيراً أم شراً؟ فنعاملكم على مقتضى أعمالكم.
وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «إنما جعلنا خلفاً لينظر كيف عملنا، فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية» وكان أيضاً يقول: «قد استخلفتَ يا ابن الخطاب، فانظر كيف تعمل».
الإشارة: ما هلك من هلك إلا لإخلاله بالشرائع أو بالحقائق، فالشرائع، صيانة للأشباح، والحقائق صيانة للأرواح، فمن قام بالشرائع كما ينبغي صان نفسه من الآفات الدنيوية والأخروية، ومن قام بالحقائق على ما ينبغي، صان روحَه من الجهل بالله في هذه الدار، وفي تلك الدار ومن قام بهما معاً صان جسمه وروحه، وكان من المقربين، ومن قام بالشرائع دون الحقائق صان جسمه وترك روحه معذَّبةً في هذه الدار بالخواطر والوساوس والأوهام، وفي تلك الدار بالبعد والمقام مع العوام. ومن قام بالحقائق دون الشرائع فإن كان دعوى عُذب جسمه وروحه لزندقته، وإن كان حقاً عذب جسمه هنا بالقتل، كما فُعل بالحلاج، والتحق بالمقربين في تلك الدار.
ويقال لأهل كل عصر: ولقد أهلكنا القرون من قبلكم بالبُعد وغم الحجاب، لما ظلموا بالوقوف مع الحظوظ والشهوات، وجاءتهم رسلهم التي توصلهم إلى ربهم وهم أولياء زمانهم الآيات الواضحة على صدقهم، ولو لم يكن إلا هداية الخلق على يديهم فأنكروهم، وما كانوا ليؤمنوا بهم لِمَا سبق لهم من البُعد، ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم، لننظر كيف تعملون مع شيوخ التربية في زمانكم، هل تنكرونهم أو تقرونهم، والله تعالى أعلم.


يقول الحق جل جلاله: {وإذا تُتلى عليهم} يعني كفار قريش {آياتُنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا} من المشركين {ائْتِ بقرآن غيرِ هذا} أي: بكتاب آخر ليس فيه ما نستبعده من البعث والحساب، والعقاب بعد الموت، أو ما ذكره من سب آلهتنا، وعيب ديننا، أو اجعل هذا الكلام الذي من قِبَلك على اختيارنا، فأحل ما حرمته، وحرم ما أحللته؛ ليكون أمرنا واحداً وكلمتنا متصلة، {أوبدِّلْه} بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى.
{قل} لهم يا محمد: {ما يكون}: ما يصح {لي أن أبدِّله من تلقاء نفسي}: من قِبل نفسي، وإنما اكتفى بالجواب المذكور عن التبديل؛ لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر، قل لهم: {إنْ} أي: ما {أتبعُ إلا ما يوحى إليَّ}، لا أقدر أن أقول شيئاً من عندي. قال البيضاوي: هو تعليل لما يكون، فإن المتبع لغيره في أمر لم يستبد بالتصرف فيه بوجه، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات لبعض، ورد لما عَرّضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعُه، ولذلك قيد التبديل في الجواب وسماه عصياناً فقال: {إني أخاف إن عصيتُ ربي عذاب يوم عظيم} يوم القيامة، وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح. اهـ.
{قل لو شاءَ اللهُ ما} أرسلني إليكم، ولا {تلوتُه عليكم ولا أدْرَاكم} أي: أعلمكم {به} على لساني. وفي قراءة ابن كثير: ولأدراكم، بلام التأكيد، أي: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري.
والمعنى أنه الحق لا شك فيه، لو لم أُرْسَل به أنا لأرسل به غيري. وحاصل المعنى: أن الأمر بمشيئة الله لا بمشيئتي، حتى أجعله على نحو ما تشتهون. ثم قرر ذلك بقوله: {فقدْ لبثتُ فيكم عُمُراً} منذ أربعين سنة {مِن قبله} أي: من قبل نزول هذا القرآن، لا أتلوه ولا أعلم منه شيئاً، وفيه إشارة إلى القرآن معجز خارق للعادة، فأن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يدرس فيها علماً، ولا يشاهد عالِماً، ولم ينشد قريضاً أي: شعراً ولا خطبة، ثم قرأ عليهم كتاباً أعجزت فصاحتُه كل منطيق، وفاق كل منظوم ومنثور، واحتوى على قواعد عِلْمي الأصول والفروع، وأعرب عن أَقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هي عليه، عُلم انه معلم به من عند الله. قاله البيضاوي.
فكل من له عقل سليم أدرك حقِّيته، ولذلك قرعهم بقوله: {أفلا تعقلون} أي: أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر، فتعلموا أنه ليس من طوْق البشر، بل هو من عند الحكيم العليم الواحد القهار.
الإشارة: إذا ظهر أهل التربية الداعون إلى الله بطريق صعبة على النفوس، يُسيرون الناس عليها، كخرق العوائد وتخريب الظواهر والتجريد، قال من لا يرجو الوصول إلى الله لغلبة الهوى عليه: ائتونا بطريق غير هذا لنتبعكم عليه، يكون سهلاً على النفوس، موافقاً لعوائدنا، أو بدلوا هذا بطريق أسهل، وأما هذا الذي أتيتم به، فلا نقدر عليه، وربما رموه بالبدعة، فيقولون لهم: ما يكون لنا أن نبدله من تلقاء أنفسنا، إن نتبع إلا ما سلك عليه أشياخنا وأشياخهم، فما ربَّوْنا به نُربّي به من تبعنا، فإن خالفنا طريقهم خفنا من عقاب الله، حيث غششنا من اتبعنا، ولقد مكثنا معكم قبل صحبة أشياخنا سنين، فلم تروا علينا شيئاً من ذلك حتى صحبناهم، فدل ذلك على أنه موروث عن أشياخهم وأشياخ أشياخهم، أفلا تعقلون؟.


يقول الحق جل جلاله: {فمن أظلم} لا أحد أظلم {ممن افترى على الله كذباً} بأن تقوَّل على الله ما لم يقل، وهذا بيان لبراءته، مما اتهموه به من اختراعه القرآن، وإشارة إلى كذبهم على الله في نسبة الشركاء له والولد، {أو كذَّب بآياته} فكفر بها، فلا أظلم منه {إنه} أي: الأمر والشأن {لا يُفلح المجرمون} أي: لا يظفرون ببغيتهم، ولا تنجح مساعيهم؛ لإشراكهم بالله. كما قال تعالى: {ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعُهم} من الجمادات التي لا تقدر على ضر ولا نفع، والمعبود ينبغي أن يكون مثيباً ومُعاقباً، حتى تكون عبادته لجلب نفع أو دفع الضر. {ويقولون هؤلاء} الأوثان {شفعاؤنا عند الله} تشفع لنا فيما يهمنا من أمور الدنيا، أو في الآخرة إن يكن بعث، وكأنهم كانوا شاكين فيه، وهذا من فرط جهالتهم، حيث تركوا عبادة الموجد للأشياء، الضار النافع، إلى عبادة ما يُعلم قطعاً أنه لا يضر ولا ينفع. {قل أتنبّئون الله} أتخبرونه {بما لا يعلم} وجوده {في السماوات ولا في الأرض} وهو أن له شريكاً فيهما يستحق أن يعبد. وفيه تقريع وتهكم بهم.
قال ابن جزي: هو رد عليهم في قولهم بشفاعة الأصنام، والمعنى: أن شفاعة الأصنام ليست بمعلومة لله الذي هوعالم بما في السماوات والأرض، وكل ما ليس بمعلوم له فهو عدم محض، ليس بشيء، فقوله: {أتنبئون الله} تقرير لهم على وجه التوبيخ والتهكم، أي: كيف تعلمون الله بما لا يعلم. اهـ. قال ابن عطية: وفي التوقيف على هذا أعظم غلبةٍ لهم، إذ لا يمكنهم إلا أن يقولوا: لا نفعل، ولا نقدر أن نخبر الله بما لا يعلم.
ثم نزه نفسه عن ذلك فقال: {سبحانه وتعالى} أي: تنزيهاً له وتعاظم {عما يشركون} أي: إشراكهم أو عن الشركاء الذين يشركونهم معه. وقرأ الأخوان: بالتاء، أي: عما تشركون أيها الكفار.
الإشارة: في هذه الآية زجر كبير لأهل الدعوى، الذين ادعوا الخصوصية افتراء، ولأهل الإنكار الذين كذبوا من ثبتت خصوصيته، وتسجيل عليهم بالإجرام، وبعدم النجاح والفلاح، وفيها أيضاً: زجر لمن اعتمد على مخلوق في جلب نفع أو دفع ضر، أو اغتر بصحبة ولي يظن أنه يشفع له مع إصراره، وعظيم أوزاره. والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8